د. عبدالله الأشعل **
لدينا ثلاث صيغ، الصيغة الأولى: فلسطين للصهاينة، وهذا هو المشروع الصهيوني الذي ظهر بالتدريج وحسب الظروف، والذي يُفرَض الآن بالقوة على المنطقة العربية.
والمشروع الصهيوني يقضي بإبادة سكان البلاد الأصليين والانفراد بأرضهم، ولا بد أن يتحقق ذلك في فلسطين حتى يمكن لإسرائيل أن تُنشئ مشروع "إسرائيل الكبرى" بالاقتطاع من دول عربية مجاورة وهي: مصر وسوريا ولبنان والأردن والسعودية والعراق والكويت. وذلك تطبيقًا لملاحظة ترامب أن إسرائيل دولة متقدمة، ولكنها تتمتع بمساحة ضيقة جدًا؛ فهو يريد توسيع دائرة التقدم ويرى ترامب ويبلور النظرية الاستعمارية، وهي أن الدول العربية أرض بلا شعب. وسبق لنتنياهو أن أكد هذه النقطة، ولذلك لا يرى ترامب أن توسع إسرائيل عدوانًا على الدول العربية المجاورة، ويرى أن المستوطنين من حقهم الأرض لأن العرق العربي لا يستحق!
الصيغة الثانية: هي أن فلسطين كلها للفلسطينيين، وهذا هو رأي المقاومة الفلسطينية من قبل ومن بعد "طوفان الأقصى". وأنا أوافق المقاومة، خاصة مع تعثُّر تقسيم فلسطين ووضوح المشروع الصهيوني وسلوك إسرائيل في غزة وعجز المجتمع الدولي عن إلزام إسرائيل بتسوية عادلة في فلسطين.
يترتب على ذلك أن تُعدِّل الدول العربية صيغتها في ضوء سلوك إسرائيل، وسوف يتضح هذا الاقتراح بالكامل بعد معالجتنا للصيغة الثالثة.
الصيغة الثالثة: تقسيم فلسطين بين الصهاينة اللصوص وبين أصحاب الأرض. للأسف دخل المجتمع الدولي، وخاصة الأمم المتحدة، في مؤامرة لصالح الصهاينة الذين ادّعوا أنهم يهود، وقد أوضحنا في مقالات سابقة أنهم لو كانوا يهودًا حقًا ما كانوا ليجرؤوا على اغتصاب الأرض؛ فالشريعة اليهودية شريعة سماوية، وبنو إسرائيل خاطبهم القرآن الكريم مباشرة، وقال لهم: "مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا"، وصارت قاعدة في القرآن الكريم إلى قيام الساعة.
ويدل سلوك الصهاينة في تجويع وإبادة غزة على أنهم صهاينة لصوص، لا علاقة لهم بالشريعة اليهودية التي تُجلّ النفس البشرية وقدّسها الله سبحانه، وجعلها أقدس من بيته الحرام. فكيف يدّعون أنهم يهود ويقتلون النفس البشرية بهذه الوحشية؟ ولا عبرة في الدين للتبريرات السياسية أو للفهم الخاطئ للتوراة.
والحق أن التعايش بين الفلسطينيين والصهاينة أصبح مُستحيلًا، وأن حل الدولتين استخفاف بعقول العرب والفلسطينيين؛ لأن إسرائيل رفضت قرار التقسيم واستخدمته مرحلة معينة في تنفيذ المشروع الصهيوني. وإن سلوكها منذ نشأتها عام 1948 يتفق تمامًا مع معطيات المشروع الصهيوني، كما إنها أصدرت قانونًا يحظر إقامة الدولة الفلسطينية رغم أنها خارج إطار إسرائيل، وإسرائيل دولة محتلة للدولة الفلسطينية، وتكرّس ذلك في قرارات الأمم المتحدة وقرارات محكمة العدل الدولية. فما دامت إسرائيل دولة محتلة في نظر العالم، فلماذا لا يضغط العالم لإنهاء هذا الاحتلال؟ وهل من سلطة المحتل أن يُبيد صاحب الأرض؟ ولماذا تخاذل العالم كله، بما فيه المحيط العربي والإسلامي، عن إنقاذ غزة ولجم إسرائيل ودفعها إلى احترام القانون الدولي؟ هذه نقطة تحتاج إلى دراسة متأنية.
الغريب أنه رغم وضوح هذه الحقيقة التي عبّرت عنها عملية حماس في السابع من أكتوبر 2023، وهي أن المقاومة قررت تحرير كل الأرض من إسرائيل على مرحلتين؛ الأولى: تحرير فلسطين خارج إسرائيل من الهيمنة الصهيونية، وثانيًا: ضم الأرض التي تقيم عليها إسرائيل إلى عموم فلسطين. وهذا ما تتجه إليه الأحداث، وما بشّرت به سورة الإسراء من مصير محتوم لهذا الطرف المعتدي على حدود الله.
وجدير بالدول العربية أن تُعدِّل موقفها من التسوية وأن تُعدِّل الصيغة للسلام في فلسطين. ونحن نُجِلّ الدول العربية أن تبدو بسلوكها منحازة إلى وجهة النظر الإسرائيلية لا الفلسطينية؛ فالموقف العربي غير المناهض لإسرائيل أدى إلى توحش إسرائيل واستئناس العرب تحت زعم السلام.
والسلام له معنيان: معنى Peace وهو السلام الذي يفهمه العالم كله، ومعنى Pax الذي تفرضه إسرائيل، وتريد بإسرائيل الكبرى فرض السلام الإسرائيلي. والموقف العربي لا يُرضي إسرائيل ولا يُحقق صيغة التعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين؛ لأنه يعترف للصوص بالحق في اقتسام المنزل الذي يملكه الفلسطينيون. ولن تقدر الدول العربية على قول الحقيقة ما دامت الولايات المتحدة تُرغمهم على ذلك. ولا بُد أن ننتظر ذبول الولايات المتحدة، التي تمثل أول صورة للصهيونية في القرن الخامس عشر؛ ولذلك كانت سعيدة بزرع إسرائيل في المنطقة، كما باركت جهود بريطانيا العظمى في التدليس على العرب، وإنشاء إسرائيل وفرض الوصاية على الفلسطينيين. ولذلك فإن صهيونية أمريكا هي التفسير الوحيد للعلاقة العضوية بين أمريكا وإسرائيل.
وقد سبق لنا تحليل الموقف العربي وبيان نقائصه، ولا مفر من تكرار هذه النقائص في هذا المقام:
أولاً: الموقف العربي يطالب بإنشاء دولة فلسطينية في فلسطين إلى جانب إسرائيل، وقد رد نتنياهو على هذا المطلب بأمرين: الأول أن فلسطين كلها للصهاينة منذ زمن طويل، والثاني أنه لا يُمانع في إقامة دولة فلسطينية، ولكن على الأراضي السعودية. والسعودية -كما نعلم- قدّمت في قمة بيروت العربية اقتراحًا صار هو الموقف الرسمي العربي.
ثانيًا: إن حدود الدولة الفلسطينية وفقًا للموقف العربي هي الرابع من يونيو 1967، وفي هذه الحالة يتنازل العرب نيابة عن الفلسطينيين عن ربع مساحة فلسطين خارج قرار التقسيم، وهي المكتسبات الإقليمية الإسرائيلية.
ثالثًا: إن هذا الاقتراح العربي يتصادم مع الموقف الإسرائيلي، ومطلوب تسوية هذا التناقض أولًا؛ بدلًا من تكرار الموقف في كل المناسبات بلا جدوى.
رابعًا: إن القدس الشرقية وفقًا للموقف العربي هي عاصمة الدولة الفلسطينية، وهذا يتناقض مع كل من الموقف الإسرائيلي والأمريكي ومع موقف الأمم المتحدة.
الصحيح أن القدس كلها للفلسطينيين بعد أن عجزت إسرائيل عن التفاوض حول القدس ومصيرها. والغريب أن أهداف إسرائيل معلنة، كما إن الأمم المتحدة أصدرت عشرات القرارات التي تؤكد أن القدس الشرقية أراضٍ محتلة، فكيف يُطالب العرب بأن يكون الجزء المحتل في فلسطين في القدس عاصمة الدولة حتى قبل تحريرها وإزالة هذا الاحتلال؟
الخلاصة: إن الموقف العربي يتسم بالتناقض مع الموقفين الإسرائيلي والأمريكي، كما إنه لا يُقدّم صيغة مناسبة للتعايش أو للتسوية. والمطلوب أن تسحب الدول العربية هذا الموقف المعيب من التداول. وبعد "طوفان الأقصى" صار استمرار هذا الموقف تدخلًا في الشؤون الداخلية الفلسطينية، ولو كانت الإرادة العربية متوفرة لأعلن العرب أن فلسطين كلها للفلسطينيين، ولا وجود لدولة المافيا الصهيونية.
**أستاذ القانون الدولي ومساعد وزير الخارجية المصري سابقًا